الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} لما اعتقد قوم أن له ولدًا قال: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جَسْرَة وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} فقال: اللهو الزوجة؛ وقاله الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضًا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قلت: ومنه قول امرئ القيس: وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال: الجوهري: وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} قالوا امرأة، ويقال: ولدًا. {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدًا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} قال قتادة ومقاتل وابن جريج والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و أن بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ}. وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولَكِن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارًا ولا موتًا ولا بعثًا ولا حسابًا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدًا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري. قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. {وَلَكُمُ الويل} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الربّ بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. {مِمَا تَصِفُونَ} أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد. اهـ. .قال أبو حيان: و{لو أردنا أن نتخذ لهوًا} أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى، وقد يكنى به عن الجماع، وأما هنا فعن ابن عباس والسدّي هو الولد. وقال الزجاج: هو الولد بلغة حضرموت. وعن ابن عباس: إن هذا رد على من قال: {اتخذ الله ولدًا} وعنه أن اللهو هنا اللعب. وقيل: اللهو هنا المرأة. وقال قتادة: هذا في لغة أهل اليمن، وتكون ردًا على من ادعى أن لله زوجة ومعنى {من لدنا} من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى. وقال السدّي: من السماء لا من الأرض. وقيل: من الحور العين. وقيل: من جهة قدرتنا. وقيل: من الملائكة لا من الإنس ردًا لولادة المسيح وعزير. وقال الزمخشري: بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعالي أن الحكمة صارفة عنه، وإلاّ فأنا قادر على اتخاذه إن كنت فاعلًا لأني على كل شيء قدير انتهى. ولا يجيء هذا إلاّ على قول من قال: اللهو هو اللعب، وأما من فسره بالولد والمرأة فذلك مستحيل لا تتعلق به القدرة. والظاهر أن {أن} هنا شرطية وجواب الشرط محذوف، يدل عليه جواب {لو} أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله. وقال الحسن: وقتادة وجريج {أن} نافية أي ما كنا فاعلين. {بل نقذف} أي نرمي بسرعة {بالحق} وهو القرآن {على الباطل} وهو الشيطان قاله مجاهد، وقال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: بالحق بالحجة على الباطل وهو شبههم ووصفهم الله بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: الحق عام في القرآن والرسالة والشرع، والباطل أيضًا عام كذلك و{بل} إضراب عن اتخاذ اللعب واللهو، والمعنى أنه يدحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويرًا لإبطاله وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلًا قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه أي أصاب دماغه، وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل. وقرأ عيسى بن عمر {فيدمغه} بنصب الغين، قال الزمخشري: وهو في ضعف قوله: وقرىء {فيدمُغه} بضم الميم انتهى. و{لكم الويل} خطاب للكفار أي الخزي والهم مما تصفون أي تصفونه مما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد ونسبة المستحيلات إليه. وقيل {لكم} خطاب لمن تمسك بتكذيب الرسل ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، وهو المعنى بقوله: {مما تصفون} وأبعد من ذهب إلى أنه التفات من ضمير الغيبة في {فما زالت تلك دعواهم} إلى ضمير الخطاب. اهـ. .قال أبو السعود: إشارة إجماليةٌ إلى أن تكوينَ العالمَ وإبداعَ بني آدمَ مؤسسٌ على قواعد الحِكَم البالغةِ المستتبِعة للغايات الجليلةِ، وتنبيهٌ على أن ما حُكي من العذاب الهائلِ والعقاب النازلِ بأهل القرى من مقتَضيات تلك الحِكَم ومتفرِّعاتها حسبَ اقتضاءِ أعمالِهم إياه، وأن للمخاطَبين المقتدين بآثارهم ذَنوبًا مثلَ ذَنوبهم، أي ما خلقناهما {وما بَيْنَهُمَا} من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسُها وأفرادُها ولا تحصر أنواعُها وآحادُها على هذا النمط البديعِ والأسلوب المنيعِ خاليةٌ عن الحِكَم والمصالح، وإنما عبّر عن ذلك باللعب واللهو حيث قيل: {لاَعِبِينَ} لبيان كمالِ تنزّهه تعالى عن الخَلْق الخالي عن الحِكمة بتصويره بصورةِ ما لا يرتاب أحدٌ في استحالة صدورِه عنه سبحانه، بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدًا لوجود الإنسان وسببًا لمعاشه ودليلًا يقودُه إلى تحصيل معرفتِنا التي هي الغايةُ القصوى بواسطةِ طاعتِنا وعبادتنا كما ينطِق به قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} استئنافٌ مقرّر لما قبله من انتفاء اللعبِ واللهو، أي لو أردنا أن نتخذ ما يُتَلهّى به ويُلعب {لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} أي من جهة قدرتِنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعةِ والأجرامِ الموضوعة كدَيدن الجبابرةِ في رفع العروش وتحسينها وتسويةِ الفروش وتزيينها، لَكِن يستحيل إرادتُنا له لمنافاته الحِكمةَ فيستحيل اتخاذُنا له قطعًا وقوله تعالى: {إِن كُنَّا فاعلين} جوابُه محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه، أي إن كنا فاعلين لاتخذناه، وقيل: إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللهو لعدم إرادتِنا إياه فيكون بيانًا لانتفاء التالي لانتفاء المقدّم أو لإرادة اتخاذِه فيكون بيانًا لانتفاء المقدّمِ المستلزِمِ لانتفاء التالي، وقيل: اللهوُ الولدُ بلغة اليمن، وقيل: الزوجةُ والمرادُ الردُّ على النصارى ولا يخفى بُعدُه. {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} إضرابٌ عن اتخاذ اللهوِ بل عن إرادته، كأنه قيل: لَكِنا لا نريده بل شأنُنا أن نُغلّب الحقَّ الذي من جملته الجِدُّ على الباطل الذي من قبيله اللهوُ، وتخصيصُ شأنِه هذا من بين سائر شؤونِه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد {فَيَدْمَغُهُ} أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المَحْكية، وقد استُعير لإيراد الحقِّ على الباطل القذفُ الذي هو الرمْيُ الشديدُ بالجِرم الصُّلْب كالصخرة، وَلمَحْقه للباطل الدمغُ الذي هو كسرُ الشيء الرِّخْوِ الأجوفِ وهو الدِّماغ بحيث يشق غشاءَه المؤدّيَ إلى زُهوق الروحِ تصويرًا له بذلك، وقرىء فيدمغَه بالنصب وهو ضعيف، وقرىء فيدمُغه بضم الميم {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي ذاهبٌ بالكية، وفي إذا الفجائية والجملة الاسميةِ من الدِلالة على كمال المسارعةِ في الذهاب والبُطلان ما لا يخفى فكأنه زاهقٌ من الأصل {وَلَكُمُ الويل مِمَا تَصِفُونَ} وعيدٌ لقريش بأن لهم أيضًا مثلَ ما لأولئك من العذاب والعقاب، ومن تعليليةٌ متعلقةٌ بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ، أو بمحذوف هو حالٌ من الويل أو من ضميره في الخبر، وما إما مصدريةٌ أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي واستقر لكم الويلُ والهلاكُ من أجل وصفِكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل، أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد أو كائنًا مما تصفونه تعالى به. اهـ. .قال الألوسي: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوًا إلهيًا أي حكمة اتخذتموها لهوًا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع. وقوله تعالى: {إِن كُنَّا فاعلين} كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي {إِن كُنَّا فاعلين} ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحًا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنًا بالغًا انتهى، وقال الزمخشري: {مّن لَّدُنَّا} أي من جهة قدرتنا، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين، وقد فسره به أيضًا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعًا ذاتيًا والممتنع لا يصلح متعلقًا للقدرة، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافي أن يفعل فعلًا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيًا به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى. والحق عندي أن العبث لكونه نقصًا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لَكِنا قائلون بالوجوب عنه عز وجل، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي: إن مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع أنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه لا واجب عليه عز وجل، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم وكالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى.
|